الأحد، أغسطس 31، 2008

صُورَةٌ شَوهَاءُ لِلْقَمَرْ




صورة الشمس وهي تحتضن ذلك البيت الخشبي المعتق وتغسله بضيائها فيندلق متزحلقاً على سقف البيت الخارجي ليرتمي على مروج الريف ,وأخرى للصغار وهم يسبحون في بحر أعشابٍ يموّجها النسيم,ويتقافزون على أشجار البلوط الباسقة بغرورٍ على تلٍ مخضبٍ بالجمال, ويتراشقون بماء النبع ويضحكون..
صورٌ شتى تكاثفت في ذاكرة عطيفة لتهطل دموعها مدراراً كأمطارٍ استوائية.
غادرت عطيفة بلدتها الأعجمية مع أفراد عائلتها الذين أرادوا أن ينزوا كخليةٍ في جسدٍ كبير.
تتمدد الصور في ذاكرتها المشرعة لتملأ مآقيها حنين,ثم تنكمش طاوية معها بعضُ من شوقٍ لذلك المكان.
قالت لوالدها ذات تمدد:
- أرض الغربة يا أبي أرضٌ شائكة,إن نجونا من وخزاتها مرة,فلن يكون ذلك كل مرة.
تبسم والدها وهو يعضُّ على نوى ضجّ به قلبه حنيناً لبلده و أهله,وقال:
- بنيتي الغربة غربة روحٍ,يتقلب فيها القلب بين أشواك وحدته.
صمت برهة جال خلالها بنظره على المساحات والجبال الخضراء التي كانت كمشاجبٍ عُلقت عليها الغيوم ولا تكاد تغادرها,ثم استجمع أحرفه ليُضاءل تلك الصور في عينيه,واستطرد قائلاً:
- هنا نلهث خلف صوتٍ لأذان وصورةٍ لهلال نُداري حياة أرواحنا,نستميت لأجلها,لكن هناك ستُغمر أرواحنا ببحر صدقٍ وإخاء لا ينضب,حينها سننضو أسمال الغربة,غربة الروح يا ابنتي.
أمسكت تلك الكلمات بخطام فكرها ,فأحبت ذاك الجسد,وأدركت بأن روحها آن لها أن تشرئب,آن لها أن تركن إلى الأنس ,أطرقت ملياً ومسحت حبيباتٍ متناثرة أسفل عينيها,ثم قالت:
- محق يا أبي,ما قيمة المكان إلا بأهله,وأين ستجد الروح سعادتها ما لم تجد أرواحاً مآلفة لها..؟!
***
أناخت بهم الأيام على قارعة السعادة التي انسابت مع عروقهم لتدفع بقوةٍ كل غربة وحيرة متخثرة في طريقها,الأب عمل بنّاءاً والأم كانت تجيد الحياكة فامتهنت بها ,الصغار ألحقوهم بالمدارس أما عطيفة فكانت تعين والدتها على أعمالها وتوصل المنسوجات إلى أصحابها.
***
عطيفة ترتدي عباءةً سوداء على أحد جانبيها رُتَقٌ حمراء,وتلف حول رأسها خماراً أبيضاً بالي الأطراف ,تحمل كيساً يحوي منسوجاتٍ تمت حياكتها,توقفت برهة أمام مبنى مهيب,يتوافد إليه نساء كبيرات وفتياتٍ وعددٍ كبير من الصغيرات بعضهن يمسك كتاباً كم تمنت لو أنها تقرأه كله.
بينما هي عائدة إلى المنزل قادتها أشواقها دون أن تشعر لتدخل المبنى ,فدارت في دهاليزٍ كثيرة,وما إن تلتقي بعددٍ منهن حتى تتراجع خجلاً دون أن تنبس بكلمةٍ واحدة,فإذ بها ترى إحداهن تجلس على مكتبٍ زجاجي وحدها,تقدمت نحوها عطيفة مبتسمة وقد تعانقت أسارير الفرح بداخلها بلقيا أرواحٍ تماثلها ,وكأخٍ شقيق توقع سرور أهله بمجيئه بعد غيابٍ طويل توقعت عطيفة فرح تلك برؤيتها, ألقت السلام وتعلوها ابتسامة قمرٍ رقيقة تشي بما يجول بخلدها,المرأة مذ رأتها قطبت جبينها وردت نصف السلام,جلست عطيفة على الكرسي وقالت بعربيةٍ مكسرة:
- أريد أن ألتحق هنا.
رمقتها ثم صعّرت خدها وقالت بتبرمٍ وسخرية:
- لا,لا يمكن ذلك,ربما لاحقاً.
ألحّت عطيفة عليها,فنهرتها باستعلاء:
- اخرجي..اخرجي قلت لا يمكن,هيّا اخرجي.
خرجت عطيفة بنظراتٍ وحالةٍ مناقضة تماماً للتي ولجت بها.
***
صورة القمر مكتملاً على سطح نهرٍ عذب,فإذ ببطٍ عابث يرمي بنفسه على السطح,فتتبعثر قطع القمر الأغر,ويتوارى بعض أشلاءه خلف ظله ,هكذا أصبحت صورة الجسد الذي تركت عطيفة وعائلتها بلدتهم الساحرة لأجله.
وسيظل قمراً.

ليست هناك تعليقات: